التحرش، أسبابه وعلاجه

أصبح التحرش ظاهرة مقلقة تنتشر في مجتمعاتنا، ويتبادل طرفي المشكلة - الشباب والفتيات - الاتهامات حول من منهم المسؤول عن تفشي تلك الظاهرة. ولكن هل يوجد أسباب أخرى لتلك الظاهرة غير ما يتم يتداوله في المجتمع؟ ... فلنتناقش!!

التحرش، أسبابه وعلاجه

تمتاز مجتمعاتنا العربية والإسلامية بكثير من الصفات الفريدة التي تجعلها مختلفة عن باقي المجتمعات. فالدين يمثل عاملا كبيرا في تشكيل وعي الناس وسلوكياتهم وأخلاقهم. فالمجتمع يتبرأ ويخجل من أي فعل ينافي تعاليم الدين وآدابه ويجد حرجا شديدا في تقبل أو التعامل مع ما يناقض أخلاقياته.

من أبرز تلك الأفعال التي يخجل منها المجتمع، التحرش. فالتحرش يعتبر من الجرائم الشنيعة التي تمس كل بيت في المجتمع. ففي مجتمعاتنا الشرقية التي تنظر للمرأة نظرة محافظة، يعتبر الاعتداء عليها عملا غير مقبول ولا ينم عن الرجولة أو الشهامة التي يحب الرجل الشرقي الاتصاف بهما.

تخاف أغلب ضحايا التحرش من الفضيحة، فلا تقوم بالإبلاغ عن الواقعة.

وبالرغم من رفض المجتمع الشديد لتلك الجريمة والتحرج منها، إلا أنها ظلت في تزايد مستمر سنة بعد سنة حتى أصبحت ظاهرة تهدد سلم المجتمع وتجعل كل الفتيات يشعرن بالخوف من السير والتنقل وحدهن، وتبقي الآباء والأمهات قلقين دوما على بناتهن طوال فترة تواجدهن خارج المنزل.

إن التحرش يعتبر من أصعب الظواهر دراسة وعلاجا. فهي جريمة يعتبرها المجتمع مُخلة بالشرف سواء للجاني أو الضحية، لذلك تلجأ كثير من الضحايا إلى كتمان الأمر وعدم الإبلاغ خشية الفضيحة، مما يعقد المشكلة أكثر ويجرأ الجاني على التمادي في فعلته. وذلك يؤدي إلى حالة عامة من الخوف وعدم الأمن بين الفتيات والأهالي.


اتهامات متبادلة

في الآونة الأخيرة ومع زيادة تلك الظاهرة بشكل غير مسبوق، كثُر الحديث والنقاش حول الأسباب الحقيقية لانتشار التحرش في مجتمعنا رغم تناقضها الكبير مع قيم المجتمع وتعاليمه الدينية والأخلاقية.

والحقيقة أن النقاش تحول إلى اتهامات متبادلة بين فريق النساء وفريق الرجال. فالنساء يتهمن الرجال بالشهوانية وانعدام الأخلاق وأن نظرتهم المتخلفة للمرأة هي سبب تلك الظاهرة. وأن الذكور من شباب المجتمع يعانون من كبت جنسي نتيجة صعوبة الزواج وعدم القدرة على إقامة بيت سوي، مما يدفعهم لتفريغ ذلك الكبت عن طريق التحرش بالفتيات في الطرقات.

بينما يرى الذكور أن السبب هو الفتيات أنفسهن، متهمين إياهن بإثارة غرائز الشباب عبر ملابسهن التي يراها الشباب فاضحة وغير محتشمة وتنافي الأخلاق. هذا بالإضافة إلى تهم أخرى مثل الخضوع في القول والتصرفات الغير لائقة. وبالتأكيد، ترفض الفتيات تلك التهم وتراها تدخلا سافرا في شئونهن الشخصية.

وترى الفتيات أن الشباب ليس لهم الحق في التحجج بملبسهن أو التعليق عليه، وإذا كانت ملابس الفتيات لا تعجبهم فعليهم العمل بمبدأ غض البصر. وأن هذا ليس مبررا للاعتداء على أي فتاة بحجة المظهر أو الملبس، ويعللن ذلك بعدة حجج منها:

  • إذا كان الملبس هو السبب، لماذا تتعرض المنتقبات إذا للتحرش رغم احتشامهن الكامل؟
  • المرأة في أوربا تلبس ثيابا أجرأ من هنا بكثير ولا تتعرض للتحرش!!

والحقيقة، أنا أرى أن كلا الطرفين قد جانبه الصواب في اتهامه للظرف الآخر. وأن تلك الظاهرة لها أسباب أخرى يجب أن نفطن إليها حتى نتمكن من علاجها والقضاء عليها. وتجاهل تلك الأسباب الحقيقية لن يزيد المشكلة إلا تعقيدا وتأزما.


بين الظاهرة والجريمة

بداية، يجب أن نوضح بعض النقاط المهمة قبل استكمال الحديث حول أسباب التحرش الحقيقية:

أسباب الجريمة ليست مبررا لها، ولا تعامل مع الجريمة إلا بالعقاب والقصاص.

  • عند وقوع جريمة تحرش في مكان ما ويكون هناك ضحية معلومة لتلك الجريمة، فلا يجب أن يكون هناك حديث إلا القصاص من الجاني ورد الحق للضحية. ولا مجال هنا لتبرير والتماس الأعذار للمتحرش، فالجريمة ليس لا مبرر ولا عذر ولا يجب أن نوجه اللوم للضحية أبدا ومحاولة تحميلها جزأ من الخطأ.

  • أما عند التحدث عن التحرش كظاهرة تؤرق المجتمع، حينها يجب أن نذكر كل الأسباب ونوضحها حتى ولو كانت تلك الأسباب لا ترقى أن تكون مبررات وأعذار ولكنها بالتأكيد تؤدي لانتشار وتفاقم تلك الظاهرة. ولا يجب أن ندفن رؤوسنا في الرمال ونكابر، بل على كل فرد منا ان يقوم بدوره للقضاء على تلك الآفة.

  • الاحتشام في الملبس والقول والفعل هو أمر مهم أمرت به المرأة المسلمة وكذلك الرجل أيضا. فالله عز وجل أمر المرأة والرجل بالملبس الساتر الذي لا يبن ويكشف العورات. فقال تعالى: " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ۚ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا " - الأحزاب ٥٩...

    فالله عز وجل أمر نساء المؤمنين بالستر الكامل حتى لا يُعرفن فيقوم ضِعاف النفوس بأذيتهن. وبالطبع، لا يُفهم من الآية أن من لا تلتزم بالستر يكون تعرضها للأذى مقبولا، ولكن الإنسان عليه أن يقي نفسه الشر من البداية ولا يُعرض نفسه للأذى ثم يلوم هذا وذاك. فحتى وإن كان التحرش لا مبرر له، وجب على المرأة الستر والاحتشام حماية لنفسها من معدومي الضمائر والمجرمين.

    وقولنا إن ملبس الفتيات ليس مبررا للتحرش، ليس دعوة للتبرج وعدم الاحتشام، ولا يجب أن يُفهم منه ذلك.
    "فيجب على المرأة الاحتشام ولو صار كل الرجال عُميانا"

  • كذلك، أمر الله تعالى الرجل بغض البصر وإشاحة وجهه إذا رأى ما قد يخالف الدين. قال تعالى: " قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ " – النور - ٣٠.
    "فيجب على الرجل غض بصره ولو سارت كل النساء عرايا"


أسباب باطلة

والتعلل بملابس المرأة هو قول غير مقبول ولا يبرر جريمة التحرش. فمثلا، لو ذهبت يوما للنوم في منزلي وتركت باب المنزل مفتوحا دون أن احكم إغلاقه، هل يُعد ذلك مبررا لأي لص أن يدخل المنزل ليسرقه أو ليعتدي علي؟ وهل يُعتبر ذلك سببا مقبولا عند القاضي لتبرأته أو تخفيف العقوبة عليه؟ بالطبع لا. كذلك، فلو أنك رأيت فتاة ووجدت - من وجهة نظرك - أن زيها غير محتشم، لا يجب أن يفهم ذلك أنه دعوة للتحرش بها والاعتداء عليها.

التحرش هو اعتداء جنسي، لكن أسبابه ليست كذلك.

وأما القول بأن انتشار التحرش هو بسبب الكبت الجنسي عند الشباب، هو أيضا قول باطل. فكثير من مرتكبي تلك الجريمة هم في سن الصبا أو حتى الطفولة، فأي كبت يتعرضون له؟ وهل يريد هؤلاء الزواج مثلا في هذا السن ولا يستطيعون؟

كما أن التعلل بأوربا هو أمر غير مقبول أيضا، فالقول بأن نساء أوربا يلبسن ما يردن ولا يتعرضن للتحرش هو كلام خاطئ تماما. فطبقا لهذه الإحصائيات لعام ٢٠١٨ تعرضت ٨١٪ من السيدات في السويد للتحرش. وكذلك ٦١٪ من نساء فرنسا وغيرها من بلدان أوربا، فهي ليست بمنأى عن تلك الظاهرة المتزايدة في كل مكان.

والحقيقة أن التحرش بالرغم أنه جريمة جنسية في طابعها، إلا أن أسبابها الحقيقية ليست جنسية على الاطلاق. فلا هو بسبب ملابس الفتيات - مع أهمية الاحتشام - ولا بسبب الكبت الجنسي عند الذكور - مع أهمية غض البصر.


القهر شعور مدمر

الإنسان كائن اجتماعي بطبعه، لا يستطيع العيش وحيدا، بل يحتاج إلى الناس من حوله ليتفاعل معهم. والإنسان يحب أن يجد نفسه مفيدا ومؤثرا في حياته وأن يشعر أن لحياته قيمة وفائدة. فالإنسان إن شعر أنه بلا فائدة وأن حياته لا قيمة لها فإن ذلك يصيبه بالإحباط والكثير من المشاكل النفسية. فالإنسان لا يريد أن يعمل فقط ليكل ويشرب، ولكنه يحب أيضا أن يكون عمله هذا ذو منفعة للناس وليس عملا تافها يمكن الاستغناء عنه.

الإحساس بعدم القيمة وضياع المستقبل يولد شعورا بالقهر وقلة الحيلة.

إن شعور الإنسان بعدم القيمة يولد لديه شعورا بالقهر وأنه ضعيف حقير، وهذا شعور جد مخيف. فالإنسان لا يحب أن يجد نفسه أضعف أقرانه أو أصحابه أو زملائه. لذلك سيسعى دائما أن ينقل أو يُرحِّل هذا القهر إلى من هو أضعف منه حتى لا يشعر انه الأضعف أو الأقل شأنا. فالمدير المقهور سينقل قهره إلى مرؤوسيه، الذين بدورهم سيقهرون الموظفين، الذين بدورهم سيقهرون زوجاتهم في المنزل، وينتقل القهر إلى الأبناء فيقهر الأكبر سنا الأصغر، وهذا الأصغر إن لم يجد من هو أضعف منه ليقهره سيقهر القطط والحيوانات الضعيفة في الشارع، وهكذا في حلقة مفرغة من القهر المتبادل.

إن الشباب في الشارع أو الطرقات لا يشعر بالكبت الجنسي، بل يشعر بالقهر. فكثير من الشباب لا يعمل ولا يعرف هدفا من حياته وقد يصل إلى سن الثلاثين ولم يحقق من أحلامه شيء. فمستقبله مجهول بل لا يكاد يكون موجودا بالأساس. وقد يكون رجلا عاملا ولكن دخله يسير لا يكفي متطلباته ومتطلبات بيته التي لا تنتهي، ويجد نفسه دائما واقعا تحت ضغط كبير فقط ليحافظ على مستوى معيشته. كل ذلك وغيره الكثير يجعل الشاب واقعا تحت وطأة قهر كبير لا يتحمله، وكما قلنا سابقا سيسعى إلى ترحيل هذا القهر إلى من هو أضعف منه.


الضحية الأضعف

فبينما هو غارق في قهره، تمر من أمامه فتاة لا يعرفها ولا تعرفه، ولكنها تمثل الضحية المثلى له. فهي فتاة ضعيفة لن تتمكن من رد الإساءة. وحيدة، لن تجد من ينجدها. إن المتحرش جبان، لا يستطيع ترحيل يأسه وقهره لمن هو أقوى منه لأنه قد يتعرض حينها للأذى هو نفسه مما سيزيد من إحساسه بالقهر. فهو يريد ضحية ضعيفة ليقهرها ويرضي نفسه، ويقنع نفسه أن هناك من هو أكثر منه بؤسا. فإن الشعور بأنك أقل الناس شأنا وأكثرهم بؤسا لهو شعور مدمر. والإنسان يشعر بالرضى إن وجد من هو أقل منه حظا.

التحرش هو أكثر ما يسبب الأذى النفسي والجسدي للفتاة، فيقوم به المعتدي.

والسؤال هنا، ما هي أفضل الطرق لقهر فتاة ما والتسبب لها بأكبر قدر مكمن من الأذى سواء النفسي أو الجسدي حتى يشعر المعتدي بالرضا عن حاله؟ إنه الاعتداء الجنسي. فالمتحرش لا يهدف من اعتداءه إشباع شهوة مكبوتة أثارتها ملابس الفتاة. إنه ببساطة يريد أي ضحية أضعف منه لينقل إليها قهره ويشعر من خلال ألمها أنه قوى وله شأن وليس نكرة وبلا قيمة.

وهذا الشاب المقهور ستجده يؤذي كل من هو أضعف منه ولكن بطرق مختلفة حسب الضحية المسكينة التي ساقها حظها العسر إليه. فتجده يضرب أخوته الصغار، ويسخر ويتنمر على أصدقاءه وقد يسرق من جيرانه. وقد يرتكب أي فعل يراه مناسبا لتخفيف إحساسه بالقهر.


إجابة التساؤلات

والإحساس بالقهر ومحاولة ترحيله إلى من هو أضعف منك يفسر الكثير من التساؤلات حول ظاهرة التحرش، منها:

  • لماذا يتم التحرش بالمنتقبات والمحتشمات؟: وهذا - مما سبق - مفهوم. فالمنتقبة هي أولا وأخيرا فتاة، مما يعني أنها ضحية مثالية للقهر. فهي ضعيفة ولن تقدر على رد الإساءة.

  • لم يتحرش الصبيان والأطفال؟: لأنهم هم أيضا مقهورون، إما من آبائهم أو أمهاتهم أو إخوانهم أو أصدقائهم ولا يقدرون على دفع القهر عن أنفسهم فيرحلونه لمن هو أضعف. وحين يرون من هو أكبر منهم سنا يقوم بالتحرش، يقومون بتقليده ويفعلون الشيء نفسه.

  • لماذا يتحرش الشباب في أوربا، رغم الحرية الجنسية المطلقة في مجتمعاتهم؟: فما الذي يدفعهم لتلك الجريمة إن كانت سببها شهوة يمكن إشباعها بسهولة وبطرق قانونية لديهم؟ ... الإجابة، لأنه شباب يشعر بالقهر. إما لفشله في دراسته أو حياته العملية أو العاطفية أو غير قادر على تحقيق ما حققه أقرانه في حياتهم. ويريد أن يتخلص من هذا القهر بترحيله.


للقهر أشكال متعددة

إن القهر الذي نتحدث عنه لا يجب أن يكون قهرا جسديا فقط ناتج عن اعتداء جسدي كالضرب والتعنيف. ولكن الأخطر هو القهر النفسي الناتج عن فقدان الأمل في المستقبل والشعور بضآلة الشأن. والقهر المجتمعي ليس سببا في التحرش فقط، بل سبب رئيسي لكثير من مشكلات المجتمع مثل العنف الأسري وعمالة الأطفال والزواج المبكر للبنات والتسرب من التعليم وغيرها الكثير.

التحرش هو صورة واحدة فقط من صور متعددة لنتائج القهر المجتمعي.

فالأب الواقع تحت ضغوطات الحياة الصعبة ويشعر بضياع الأمل سيقوم بتعنيف زوجته وأولاده باستمرار. وسيقوم بتزويج ابنته مبكرا حتى يتخلص من مسؤولياتها وسيقوم بإخراج ابنه من التعليم وارساله للعمل بإحدى ورش الميكانيكا أو النجارة لكسب المال ومساعدته في أعبائه. فالأب الذي يقهر ابنته، هو نفسه مقهور في عمله وحياته. والأم التي تقهر أبنائها، هي مقهورة بدورها من زوجها أو أسرتها. وهكذا، تتعدد صور الأذى من الضرب إلى الزواج المبكر إلى التحرش والسبب في النهاية واحد، قهر متراكم يتم ترحيله من الأقوى للأضعف.

إن المجتمع به الكثير من الجمعيات والمنظمات الأهلية التي تُعنى بكل مشكلة مما سبق، كل على حدا. وتحاول إيجاد حلول لكل ظاهرة دون تأثير ملموس. ولكن إن اتحدت كل تلك الجمعيات لمواجهة ظاهرة واحدة وهي القهر المجتمعي، فستتمكن من القضاء على كل تلك المشكلات معا في ضربة واحدة.


ختاما

على المجتمع أن يعالج مشاكله ويرفع القهر البدني والنفسي عن أبناءه عن طريق توفير حياة آمنة ومستقرة لهم تحميهم من الخوف من المستقبل وضغوطات الحياة وتمكن الشباب من تحقيق أهدافه وأحلامه دون تعقيدات غير مبررة. حينها فقط ستختفي ظاهرة التحرش ومعها الكثير من المشكلات الأخرى.

لا تنس أن تشاركنا رأيك بالتعليق والإعجاب . وأيضا، إعادة نشر المقال مع أصدقائك

صورة المقال من Freepik

ما هو رد فعلك؟

like

dislike

love

funny

angry

sad

wow